قمة باريس للذكاء الاصطناعي.. مناقشات حول التحديات والفرص في عصر التحولات السريعة
قناة اليمن | باريس
في إطار التحديات المتزايدة التي تطرأ على عالم العمل والاقتصاد بسبب التطورات السريعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، انطلقت في العاصمة الفرنسية باريس أعمال القمة الدولية للذكاء الاصطناعي التي تجمع قادة عالميين من مختلف المجالات السياسية والعلمية والتكنولوجية، القمة التي تُعقد تحت إشراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تستهدف البحث في كيفية تطبيق الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وآمن، مع التأكيد على أهمية وضع إطار تنظيمي شامل لهذه التكنولوجيا المتطورة.
انقسامات جيوسياسية وتحديات تنظيمية
منذ إطلاق تطبيق “تشات جي بي تي” في عام 2022، أخذ الذكاء الاصطناعي في الانتشار بسرعة مذهلة، مما أثار مخاوف بشأن تأثيراته المحتملة على المجتمع، خصوصًا في مجالات مثل سوق العمل والخصوصية والأمن، وفي ظل هذا الوضع، تتباين استراتيجيات الدول الكبرى بشأن كيفية تنظيم هذه التكنولوجيا، ففي حين تبنى الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن سياسة تيسير الوصول إلى الذكاء الاصطناعي لتعزيز التنافسية، تبنت أوروبا موقفًا أكثر تحفظًا، حيث تمت الموافقة العام الماضي على أول قانون شامل لتنظيم الذكاء الاصطناعي، الذي يتضمن مجموعة من القواعد التي تهدف إلى حماية المستخدمين وتحقيق التوازن بين الابتكار والأمان.
لكن في قمة باريس، كانت النقاشات تدور حول كيفية التوفيق بين الحاجة إلى تسريع تطور هذه التكنولوجيا من جهة، وضمان عدم تعريض الأمن العام والمصالح الاقتصادية الاجتماعية للخطر من جهة أخرى، حيث أكّد إيمانويل ماكرون، في تصريحات صحفية قبيل القمة، أن “الابتكار لا ينبغي أن يظل محصورًا في جدران المعامل التكنولوجية فقط، بل يجب أن يصب في خدمة المجتمعات البشرية”.
المخاطر على سوق العمل..من وظائف النساء إلى تهديدات للأمان الاجتماعي
أحد المواضيع التي طُرحت بقوة في القمة كان التأثير المحتمل للذكاء الاصطناعي على سوق العمل، خاصة في ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها العديد من الصناعات، فقد حذّر جيلبر هونغبو، المدير العام لمنظمة العمل الدولية، من أن الأتمتة المتزايدة، التي تدفعها تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، قد تؤدي إلى تدهور ظروف العمل للنساء.
وأضاف أن “أتمتة الوظائف التي يشغلها عدد كبير من النساء ستسهم في تعميق الفجوة بين الجنسين، مما يهدد بتفاقم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي”.
في ذات السياق، أعربت بعض القيادات العمالية عن القلق من أن الوظائف الجديدة التي سيوفرها الذكاء الاصطناعي قد تكون أقل أمانًا وأجرًا مقارنة بالوظائف التقليدية، كريستي هوفمان، الأمين العام للاتحاد الدولي لنقابات العمال، أضافت أنه يجب على الحكومات وأرباب العمل أن يتخذوا تدابير لضمان حماية حقوق العمال، مشيرة إلى ضرورة وضع أنظمة حماية اجتماعية فعالة.
الذكاء الاصطناعي والصحافة.. من الأتمتة إلى المصداقية
إحدى المبادرات البارزة التي تم الإعلان عنها خلال القمة كانت تطوير أداة ذكاء اصطناعي مخصصة للصحافيين، تسمى “سبينوزا”، تهدف هذه الأداة إلى مساعدة الصحافيين في إنتاج محتوى صحفي يعتمد على البيانات والمعلومات الدقيقة، دون أن تحل محلهم، وهو ما يتماشى مع ميثاق باريس للذكاء الاصطناعي والصحافة، الذي يشدد على ضرورة أن يبقى الصحفيون جزءًا من العملية التحريرية.
وفي هذا السياق، أكد تيبو بروتان، المدير العام لمنظمة “مراسلون بلا حدود”، أن تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال الصحفي يجب أن يكون مسؤولًا، مشددًا على أن الصحافيين لا ينبغي أن يُستبدلوا، بل يجب أن يتم دعمهم بالأدوات التي تعزز من قدرتهم على أداء مهامهم بشكل أفضل، وأضاف بروتان أن “الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار يمكن أن يكون له تأثير إيجابي، بشرط أن يكون الصحافيون هم من يقودون هذه العملية.”
الذكاء الاصطناعي والبيئة..الحاجة إلى ممارسات مستدامة
بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية، تم تناول تأثيرات الذكاء الاصطناعي على البيئة خلال القمة، يُتوقع أن تؤدي تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى زيادة الطلب على الطاقة بشكل كبير، خاصة مع تزايد الحاجة إلى مراكز البيانات القوية والمعالجة الكبيرة للبيانات، في هذا الإطار، تم التأكيد على أهمية تطوير حلول مبتكرة لضمان أن تكون هذه التقنيات متوافقة مع الأهداف البيئية العالمية، وخاصة في مواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري.
كما أعلن الرئيس الفرنسي عن استثمار كبير في إنشاء بنية تحتية لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل مستدام وصديق للبيئة، حيث سيتم تخصيص استثمارات ضخمة لمراكز البيانات ذات الكفاءة العالية، التي تساهم في تقليل التأثير البيئي لهذه التكنولوجيا.
دعوات إلى التعاون الدولي في تنظيم الذكاء الاصطناعي
من بين المواضيع الأكثر إلحاحًا التي نوقشت في القمة كانت الحاجة إلى وضع إطار تنظيمي عالمي للذكاء الاصطناعي. في هذا السياق، دعا القادة المشاركون إلى تشكيل تحالف دولي يشمل جميع الدول الكبرى لتطوير معايير عالمية تكفل تنظيم الذكاء الاصطناعي بشكل يوازن بين الابتكار وحماية المصالح العامة. وتعد القمة خطوة هامة نحو تنسيق الجهود الدولية، ولكنها أيضًا تثير تساؤلات حول القدرة على تحقيق توافق بين الدول ذات الأجندات المختلفة، مثل الولايات المتحدة والصين.
التحديات والفرص
إن قمة باريس للذكاء الاصطناعي لا تقتصر على مناقشة الابتكارات التقنية فحسب، بل تُعَد أيضًا منصة هامة لطرح التحديات التي تواجه المجتمعات في عصر الذكاء الاصطناعي. ما بين الأتمتة، والفرص الاقتصادية، والأبعاد الاجتماعية، يظل السؤال الأبرز: كيف يمكننا التوفيق بين تحقيق أقصى استفادة من هذه التكنولوجيا الرائدة وبين ضمان العدالة وحماية حقوق الأفراد؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستشكل ملامح السياسات العالمية في السنوات القادمة، وقد تحدد مدى قدرة العالم على الاستفادة من هذه التكنولوجيا بطريقة تحقق رفاهية المجتمعات كافة.